عن عملي.. الذي دمّر حياتي

عن عملي.. الذي دمّر حياتي

كتبه/ براء أشرف

لندخل في الموضوع مباشرة، أنا غاضب جداً من عملي.

(1)

ملعون هو سؤال الطفولة: “نفسك تطلع إيه لما تكبر؟!”، وملعونة هي الإجابات بطبيعة الحال.

مهندس، دكتور، ضابط، لاعب كرة أو راقص باليه، لن تشكل الإجابات فارقاً يذكر، بحيث تستثنى من اللعنة.

فكرة أن شخصاً ناضجاً قرر أن يطرح على طفل صغير سؤالاً يخص الوظيفة التي يمكن أن يكونها في المستقبل، هذه -في حد ذاتها- وبعيداً عن كونها تفاهة، جريمة مكتملة الأركان.

ببساطة، هذا السؤال يزرع فكرة محدّدة: أنت = وظيفتك!

والواقع، أن في المجتمعات البشرية التي تحترم كونها بشرية: أنت = أنت. ما أنت عليه، وليس ما تفعله صباحاً بين الثامنة والرابعة عصراً (هذا إن ألزمت بمواعيد العمل الرسمية).

ما تفعله يتغير، لكنك ثابت، ما تفعله لا يعبر بالضرورة عما أنت عليه فعلاً، ما تفعله نتيجة شهادتك الجامعية، جنسيتك، لون بشرتك، إجادتك للغات الأجنبية، لكن ما أنت عليه هو “أنت”، باختصار.

“نفسك تطلع إيه؟” سؤال يؤكد، أنه ليس من الضروري من ستكونه حقاً عندما تنضج وتتجاوز طفولتك، الضروري، والمهم، والأساسي، هو ما سيراك الناس تفعله، وما سيظنه الناس بك، نتيجة الوظيفة التي تعمل بها،

وقد كانت إجابتي، على السؤال القاتل السابق: نفسي أشتغل في الميديا!

(2)

فكرة أن تحب ما تعمل، ليست دائماً جميلة، وأظنني أحببت ما كنت أعمله (ومازلت) لأقصى حد ممكن.

و”أقصى حد ممكن” عبارة تبدو مطاطة، سأعيد كتابتها مرة جديدة وأقول: أحببت ما كنت أعمله، متجاوزاً الحد الممكن.

العمل وحده، سيطر على دماغي كلها لسنوات، سأخبرك سراً سخيفاً عن نفسي، وصل بي الحال في فترة من الفترات، أنني كنت أتخيل المؤسسة التي أعمل بها أنثى، وأغني لها بعض الأغاني العاطفية.

أحببت عملي في كل أشكاله، منذ أن كنت متدرباً صغيراً في مؤسسة صحفية كبرى، مروراً بانتقالي للعمل في الإنتاج التلفزيوني، ثم مشاركتي في تأسيس شركتي الأولى، ثم رحيلي عنها وتأسيس الشركة الثانية، في كل مرة كنت أحب عملي بذات القدر، بحجم واحد، كبير جداً، الأكبر على الإطلاق.

عرفت الناس من خلال العمل، بل وعرفت العالم كله من خلاله، جلست على المقهى كصحفي يفتش عن قصة، وسافرت كمراسل ينقل أحداثاً، وكونت شبكة كبيرة من الأصدقاء، كمصادر لمعلومات صحفية مهمة، وتزوجت زميلتي، وصادقت زملائي، وخسرت بعضهم عندما انتهت علاقة العمل المؤقتة (وكنت أظنها دائمة)، وتعاملت مع صفحتي على فيسبوك باعتبارها جريدتي اليومية الخاصة.

فكرة أن تحب ما تعمل، تعني ببساطة، أن ما تفعله أجمل منك، وصدقني، لا يوجد في نظرك من هو أجمل من نفسك، وكونك لم تعرف جمالك حقاً، لم يدهشك، لم يحقق لك السعادة القصوى بأنك أنت صاحب كل هذا الجمال، فأنت بحاجة (مثلي) لمراجعة حياتك من بدايتها، هذا إن لم تكن وصلت إلى نهايتها فعلاً.

(3)

خسرت زواجي بسبب عملي، والآن أقاتل (بكل ما أملك) بحيث لا أخسر بناتي لذات السبب.

طلبت من الدكتور تأخير موعد الولادة ساعتين، لأنني مرتبط بموعد هام صباح يوم ولادة “مليكة”، واخترت يوم ولادة “كرمة” قبل موعد سفري المهم جداً (لنضع هنا ابتسامة ساخرة) بأربعة أيام فقط، وتحججت لزوجتي بأنه تاريخ مميز: 12/12/ 2012.

ذهبت زوجتي لشراء سيارتها وحدها، كنت في اجتماع، ووقعت وحدها عقد شقة اجتهدنا في تحويش ثمنها لسنوات، كنت مسافراً، ولم أحتضنها كما يجب ليلة سفرها الطويل إلى الخارج، كنت في التصوير، وقد أعدت حقائب السفر الكبيرة، بينما كنت أضبط نهاية فيلم في المونتاج!

بقيت في القاهرة وحدي، وفاتني مشهد صغيرتي تخطو خطوتها الأولى، واستغرق الأمر يومين، لترتيب غيابي عن القاهرة ثلاثة أيام، لمشاركة زوجتي حضور عملية جراحية ستجريها ذات الصغيرة، وقد أرسلت ستة رسائل إلكترونية طويلة، بينما كانت الطفلة مخدرة بالكامل، وطبيب سخيف يجري لها عملية خطيرة (هكذا فهمت فيما بعد إرسال الإيميلات).

في كل مرة، خرجنا سوية، كان الهاتف يدق، لمحادثة طويلة حول مسألة هامة تخص العمل، لأن كل المسائل هامة بالطبع، حتى وإن كنا نناقش إعلان كوكاكولا الأخير.

خطط الأسرة تتغير، حسب خطط العمل، وخطط العمل تتغير، حسب المزاج الشخصي له هو شخصياً، وأنا، أحب عملي جداً، وأخسر زواجي بذات الدرجة أيضاً.

وعندما جلست أمام المأذون، لتوقيع عقد الطلاق، ظهرت في خانة الشهود، أسماء زملائي في العمل.

(4)

اهتممت بعملي جداً، لدرجة أنني أفسدته وأفسدني، يطاردني في أحلامي، يمنعني من السعادة، الأعياد والإجازات سخيفة، ويوم الجمعة مخصص للنوم والراحة.

من أجله، خاصمت الكتابة وخاصمتني خمس سنوات كاملة، واكتشفت، فجأة، أنها ما أحببته حقاً.

مرت سنوات طويلة، أرى العالم من خلاله، حتى استسلم العالم، فقرر أن يراني هو الآخر من خلاله!

بعضهم يحبني لأنه أحب الفيلم الأخير الذي ظهر عليه اسمي، وآخر لا يحبني لأن صديقته عملت معي يوماً واختلفنا.

وكنت أرى من يجيد العمل معي، من يحب العمل معي، صديقي بالتبعية، ومن يكرهه فهو خارج قائمة أصدقائي.

كسبت أصدقاء في غرفة الاجتماعات، وخسرت بعضهم في جلسات المشاهدة، أحبني بعضهم لأنني مفيد لعمله، وكرهني بعضهم الآخر لأنني لا أحب طريقته في العمل.

واكتشفت تدريجياً، أن أفضل أصدقائي على الإطلاق، هو من خسرت العمل معه، فقال لي بعد فترة خصام: “لو كنا أصحاب لأننا بنشتغل مع بعض، فاحنا مش أصحاب أصلاً!”

ظننت، وبعض الظن غباء، أن أخلاق الناس في العمل، تعكس أخلاقهم الشخصية، ربما كان هذا صحيحاً في حالات كثيرة، لكنه منعني طويلاً من اكتشاف ما هو حقيقي وأصلي داخل البشر.

(5)

بمرور الوقت، تكشف الأمر درجة بدرجة.

راقبت المسألة، في كل مرة تركت فيها زوجتي وأطفالي للحاق بموعد هام، أو سفر عاجل، انتهى الموعد وعدت من السفر دون نتيجة تذكر.

في كل مرة صادقت أحدهم لأنني رأيته جميلاً فيما يعمل، خسرته، وتأثرت كأنني أخسر صديقاً حقيقياً، وهو لم يكن كذلك.

وفي كل مرة خاصمني صديق حقيقي لا يعمل معي، استعدت الحكاية من أولها، فاكتشفت أن شيئاً ما يخص العمل كان السبب.

تدريجياً، رأيت حياتي مدمرة، والسبب عملي الذي لم يكن حينها في أفضل أحواله.

الآن، أستعيد ما تبقى من حياتي، ما تبقى من أصدقائي، بالإضافة إلى قدر مناسب وطبيعي من العمل، دون أن أحبه، الآن أعكس الصورة، أنا جميل جداً، على عملي أن يحبني إن كان يريدني حقاً.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة