بقلم/ عمر البدوي
لأن الدنيا دار مرور، فإن الكتابة تخلق لك مروراً غير عادي.
تحتفظ ذاكرة الزمان بالأشخاص في أشكال متعددة، في موقف سياسي مفصلي، لحظة تاريخية فارقة، منجز صناعي عظيم.
وحده الكاتب يقبع بفخامة فوق رف التاريخ، سيما الكاتب البارع ذو الخيال الواسع والقلم اللامع والثراء المعرفي الرائع.
تتحكم الظروف والمعطيات في تضمين الأشخاص ذاكرة الزمان، الكاتب يخلق ظروفه ويستنطق أسبابه ويملك حيزه من التاريخ بنبوغه الشخصي واستحقاقه الذاتي.
لا فضل لأحد على الكاتب، سوى نفسه، اجتهاده الشخصي جعل من مروره على وجه البسيطة غير عادي.
رجال التاريخ الذين يستعصي النسيان على مغالبتهم، تتدخل ظروف خارج إمكانهم في منحهم صكوك البقاء على رفوف التاريخ، الكاتب يصنع ذلك بنفسه، يعتقد وبملء قناعته ومن صميم سره الدفين أن التاريخ يحتفظ بذكر الأشخاص غير العاديين، والكتابة تعطيك بقاءً مشرفاً لأمد أطول من عمرك اليسير وحضورك الآخذ في التلاشي.
يعتقد الكاتب الذي أوتي من العلم والدراية ما لم يؤت غيره، أن العالم مزدحم، والدنيا لا تكف عن ولادة الأشخاص، وهي غنية عنهم ومكتفية بسواهم، قدرتها على النسيان تساوي استطاعتها إنجاب المزيد من الآخرين، ولذلك يطور من سر خلوده وموهبة استقراره ذكراً باقياً راسخاً مركوزاً في الأرض.
الكاتب وحده ينشغل بفكرة الخلود أبعد من مساحة العمر ومسافة العيش وطول النفس، آمن بكون الدنيا محطة عبور لما سواها، وأن الحياة تسكن في معنى آخر غير هذه الأيام المثقلة بالصوارف.
سواه من النابغين يحدث أن يحتفظ التاريخ بذكرهم صُدفة، أو يأتي الخلود لهم نتيجة جهدهم وإخلاصهم وإتقانهم، ولكن يبقى ذكرهم في شكل منجز استهلاكي، أحياناً ينطوي ذكرهم ويبقى منتجهم، ولا يُنادى بأسمائهم إلا لمجرد التأريخ أو المجاملة.
الخلود للكاتب يتحقق نتيجة إرادة ذلك وقصدانه، البقاء مسألة أصيلة في تفكيره وأولوية في سلم سعيه وجهده، والنجاح بالنسبة إليه هو الوصول متعمداً وليس هدية في عرض التاريخ تتوج جهده.
الفرق تقريباً في النوايا، والإنجاز في القدرة على الوصول المتعمد والمقصود لذاته، وهذا لا ينفك عن لازمة الصدق والإخلاص والجهد والسعي الدؤوب الحثيث، الذي يحف مسيرة الكاتب ويحيط به.
تضطر الأجيال المتعاقبة العودة إلى مدخرات الكتاّب، تستمطرها لمعالجة الواقع، تبحث داخلها عن مفاتيح تستبطنها النصوص العظيمة والخالدة، وهذا يعطيها مزيداً من جدارة البقاء ولأصحابها وجاهة الخلود.
إيمان الكاتب بقصور العمر عن مطاولة الحلم بالخلود، تحرضه على البحث عن سر في شكل نص باقي وجهد كتابي سرمدي، يهيئ كل إمكاناته واستعداداته للحصول على هذه النتيجة.
إن محاولاتك لتصبح كاتباً باقياً في الأرض رغم زوال جسدك، عملية مفاوضات دائبة لتعديل ميثاق الحياة بما يعطيك مزيداً من الوقت لتعيش أكثر، تضطرب طاولة عمرك للتوقيع على ملحق إضافي على معاهدة الحياة بما يمنحك تمديداً لفرصة البقاء أكثر.
تبدو فكرة مروعة مسألة أن العمر قصير والحياة لا تدوم والدنيا إلى زوال، هذا واضح جداً بالنسبة إلى الكاتب، لأنه يعرف قيمة الحياة ويفهم المعاني التي تحيط بها وتنقضّ عليها، وهو يبحث وفي حقله الكتابي عن خارطة الخلود وسر البقاء، يظهر وكأنه أقرب من غيره، تلهمه الكتابة بالأسباب، الحقيقة تعمل العلاقة وكأنها مناجاة أو تفاهمات تنتج في شكل مكتوب.
يجهد الكاتب في البحث عن تفسير لهذا القلق، عملية المخاض هذه تقوم بتطويقه وصهره من الداخل ليصوغ كل ذلك في أطروحاته المكتوبة، ينفثها في حروفه، يتخلص منها ويسكبها في كلماته، يستريح قليلاً كما يفعل المحارب، ثم يراوده القلق مجدداً ويبدأ في رحلة جديدة من دورة العمر الباحث عن سر للبقاء.
هذا القلق لا يخص الكاتب وحده، هو الوجه الآخر من عملة حب الحياة والتعلق بالدنيا، الفرق أن الآخرين يفتك بهم القلق وينصرفون منه إلى العبثية والفوضى أو استهلاك أكبر قدر من المتع، في مسار أقرب للهروب أو الانهزام والاستسلام، الكاتب يحاول أن يخرج من ذلك بانتصار، أو اتفاق مصالحة يحتفظ للطرفين بحق الوجود والورود.
الإنسان الأول (إنسان الفطرة) يعيش بأقل قدر من القلق، يتلوه العفوي جداً لدرجة الإهمال والغفلة، ثم إنسان العصر الذي يعيش حياة مختطفة لا تمنحه فرصة التفكير وتبتلعه بقسوة صوارف الطريق، يعاني القلق ولكن لا يواجهه.
الكاتب الذي لا يواجه قلقاً من نوع ما، يبحث عنه وربما ينفخ في روحه ليحصل على دافعه للكتابة، ومؤدى ذلك الحصول على حياة دائمة تقريباً ما بقي لأثره من فاعلية ولنتاجه من قوة وحضور.
الكتابة تحتفظ بك طويلاً، تختزن تفاصيلك وكأنك حي ترزق، تسري روحك في عروق كلماتك وأفكارك، تعيش منتصبة بقدمي التجدد والتدفق، تمد من عمرك آماداً بلا انقضاء وأزماناً بلا انتهاء، والدوام للحي القيوم الذي لا يموت.