بقلم/ عمر البدوي
إذا فقدت صديقاً أو خليلاً بفعل الموت أو السفر أو مشكلة من نوع ما قبل خمسين عاماً، سيكون نسيانه صعباً، وستحتاج إلى طقوس مختلفة لتحصل على حياة خالية من ذلك الرفيق، ستظهر فيها أقصى ما تستطيع من الاحترام والتقدير والألم على فراقه.
لو حصل ذلك اليوم، فإنك لن تحتاج أكثر من أسبوع لتلتئم حياتك مجدداً وكأن الله لم يخلق لك ذلك الآدمي الذي كان صديقاً أو شقيقاً، واليوم أصبح في طيّ الغيب أو الغياب.
لماذا ينسى الناس الآن بسرعة جنونية؟
أعتقد -وعلى حد محاولتي المتواضعة للفهم- أن جيلنا المعاصر يعاني من تسطيح المشاعر.
وذلك لأنه وبفعل الانفتاح العلاقاتي الكبير والتقنيات الاتصالية الضوئية، تتكون لديه مشاعر وانطباعات تجاه الأشياء والأشخاص دون أن تحصل على الوقت الكافي للنضج.
أصبحت علاقاتنا ومواقفنا بفعل هذا الانقلاب الاتصالي والثقافي أشبه بالوجبات السريعة، من جهة سرعة اختمارها وإنضاجها وأضرارها، وهذا يتسبب تقريباً في عمليات التعلق والارتباط والانفصال والنسيان المتعجل.
ليس للمسألة علاقة باستمراء الخيانة أو الميل للطباع اللئيمة، ولكنه تعبير عن مستوى التأثير الذي تتركه حمى العصر داخل المجتمعات الهشّة.
الحب معنى تجريدي في ثقافتنا ولغتنا، نستخدمه بشكل مكثف في الأغاني والرسائل الإلكترونية وعلاقاتنا العابرة بطريقة عبثية تنتهك هذا الشعور.
لا أحد يباشره، الجميع يسمع عنه، أو به، ويتحدث وكأنه يعيش أجمل قصصه ومع أغزر خلق الله حناناً وجمالاً.
والحق أننا نعيشه بطريقة مثالية، نتعامل معه وكأنه شعور متسامي -على حقيقة هذا المعنى-، ولكننا نبالغ في ملائكيته بشكل يستبعد تأثير بشريتنا على تعاطينا معه.
لم يكن السؤال عن الحب مثيراً للقلق والحرج والارتباك كما يحدث اليوم، فضلاً عن الاعتراف به أو مواقعته، كان صورة من النبل والعفة والفروسية، ومع ذاك كان مباحاً ومنطقياً وقابلاً لخيبات الإنسان وضعفه وانهزامه، كان جزءاً من الحياة قبل أن يكون متعالياً عليها.
يبدو وكأن الحب آثر الفراق، وأصبح يأنف من المكث في بلاد المنطق المخروب والواقع المكذوب.
كل هذا ينفخ في صورة الحب لدينا، يزيد من مباعدة تصوره وإقصائه عن الواقع أو مطابقة المشاعر، حالة العصرنة التي تطال كل شي في شكل استهلاكي وتعميمي تزيد من حالته الضبابية والسرابية.
الحب مسألة قريبة من النفس جداً، سره وقوته كامنان في عفويته وغموضه لآن معاً، أننا نشعر به ولا نقبض على تفسيره أو تأطيره في تجاه معين.
يمكن أن تجده في أشيائك البسيطة، أن تبادله محيطك المتواضع، أن يشع من داخلك ويعود وهجه إليك، ويمكن أن تخوضه كتجربة تستحوذ عليك، أياً كان ولمن كان تجاهه.
ولأننا تورطنا في تعقيده أو تسطيحه، فإننا نعيشه في مجرد خيالات واهمة وتعبيرات موغلة في مفارقة الواقع ومفاصلة مشاعرنا الأصيلة، أو نعبث به بطريقة مسفة ونتعجل ارتباطاته التي نظن بها غاية الحب ومنتهاه.
يبدو لك وكأن الحب أكثر المعاني انتشاراً، وأقلها استشعاراً، انظر كيف يبديه الصبيان وكأنه ملك شغافهم واستأثر بأفئدتهم، وانظره وهو أبعد ما يكون عن محيطنا الجاف وواقعنا الكالح، وكأننا نزيح الحياة ونعيش في الافتراض، ننسحب من الواقع ونسكن في الخيال، نجففه من أعماقنا ونطرده من أذهاننا ونسكبه في مبادلاتنا الإلكترونية وهديرنا العنكبوتي، هزلت!
وسائل التواصل الجديد وسعت من شبكة تشاركك لحظاتك ويومياتك مع الآخرين، أصبح الواحد يباشر متعه ونشاطاته ويفكر في قائمة الاتصال لديه ويعاجل إخبارهم بأحداثه، يفكر في الزاوية التي يلتقط منها السلفي، يريد أن يعلم الآخرون أنه كان ضمن حضور حدث ما أو مكان معين.
يستغرق في إشراك جلسائه الافتراضيين لحظته العابرة، يحاول أن ينقل لهم التفاصيل بدقة، يتمنى لو أنه يستطيع القبض على شعوره بالاستئناس لينقله لغيره، بمرور الوقت يصبح تركيزه منصباً على هذه العادة التشاركية المزيفة وينسى أن يستمتع بلحظته الحقيقية.
دمرت هذه الوسائل شبكة اتصالك المباشرة، تلك العلاقات الحية المفعمة التي تعزز من إحساسك باللحظة وتكثف الشعور بها أكثر من أي شيء آخر، لأن التشارك الفاعل هو الضامن الوحيد لتعضيد المعاني والأحاسيس والأفكار.
خطيئة الوسائل الحديثة أنها تأخذك من الانغماس الكلي في اللحظة، وتحرمك من الاتصال المتيقظ والتشبع بتلك اللحظات الآسرة إلى حالة استعراضية جنونية بانفرادك في حضور مناسبة نادرة أو موقف لا يتكرر لمرتين في قرن واحد.
يزداد تعلقك بهذه العادة، وتبدأ في خلق لحظات لا وجود لها في واقعك، ترفع من مستوى الادعاء حتى تحافظ على حالة الاحتفال وتنشيط حسابك الإلكتروني، وتزيد في نفخ عالمك الواهم الذي يحيط بك، إلى الدرجة التي تجعل حالتك النفسية مرتبطة بمدى نشاط معرفك الافتراضي، فيصيبك الإحباط والملل إذا انخفضت فاعليته وخيّم عليه الروتين، وتطير فرحاً كلما زاد حراكه المتخيّل.
وبينما يضج واقعك بمناسبات الفرح واللحظات البسيطة المنغمسة بالسعادة، تقبع ذهنيتك في زنزانة هاتفك وشاشتك التي تختصر حياتك السرابية بين يديك.